68 :عدد المقالاتالخميس30.3.2023 الموافق 8 رمضان
 
 

 

الصحافة العربية :

52 - نظّارة الإمام(سليمان جودة)(الشرق الاوسط)ÃÖÝ ÇáãÞÇá Åáì ÃÑÔíÝí ÇáÔÎÕí

على شاشة رمضان يتابع المشاهدون مسلسلاً تلفزيونياً يروي حياة الإمام الشافعي، الذي عرفناه واحداً من أئمة الفقه الأربعة في تاريخ الإسلام. ومن حيث الترتيب الزمني كان هو الإمام الثالث، لأن الإمام أحمد بن حنبل جاء بعده، ولأن الإمام أبو حنيفة والإمام مالك سبقاه إلى الحياة. وعندما ذاع خبر المسلسل قبل شهر الصيام استقبله كثيرون بالفرح، ووجدوا في موضوعه عودة ميمونة إلى الأعمال الفنية التي تعيد تقديم التاريخ إلى الناس، وكان من دواعي الفرح أيضاً أن عملاً يروي سيرة ثالث الأئمة الأربعة سوف يقدم التاريخ والفقه معاً، وسوف يستدعي فقه الرجل من القرن الثالث الهجري حيث عاش ومات، إلى القرن الخامس عشر من الهجرة حيث نعيش ونبحث عن فقه معتدل. ومع الشافعي بالذات سوف نجد أنفسنا أمام فقهين: أحدهما كان في أرض العراق حيث عاش الرجل لفترة، والفقه الثاني كان في مصر حيث انتقل ليعيش ويموت.
وفي زمن سابق كانت الشاشة تعرض أكثر من عمل من هذا النوع، وكان المشاهد يجد فيها ثقافة تاريخية لا يجدها على الشاشة طوال السنة، ولكن في هذا العام لا يوجد عمل آخر من نوعية مسلسل الشافعي ينافسه، لأنه العمل الفني الوحيد على مستوى موضوعه ونوعيته أيضاً. كل هذا جعل منه وجبة درامية فريدة، وجعل الذين سمعوا به قبل بدء الشهر يترقبونه، وجعل منه بداية للعودة إلى دراما التاريخ من جديد.
ولكن ما حدث لم يكن في الحسبان، لأن حلقات المسلسل ما كادت تبدأ حتى انشغلت مواقع التواصل بما لم يكن على البال ولا كان في الخاطر، وبما لا علاقة له بموضوع العمل من أوله إلى آخره، وبما يقول إن جمهور ما تسمى مواقع التواصل لا صبر له على شيء، وأنه جمهور متعجل في كل أحواله، وأنه جمهور في الجزء الأكبر منه لا يرى من الأشياء في غالبيتها إلا مظهرها من الخارج.
وكانت بداية القصة عندما ظهر الفنان خالد النبوي، الذي يجسد دور الشافعي على الشاشة، بنظّارة يطالع بها كتاباً كان أمامه. إلى هنا لا شيء غير لافت في المشهد، فالإمام الذي هو خالد النبوي أمامنا على الشاشة يطالع كتاباً بين يديه، وهو يرفع نظارته ويضعها كلما مضى في القراءة والمطالعة، ولكنه لا يدري أن نظارته ستتحول إلى موضوع على مواقع التواصل، وأن فقهه لن يكون بالتالي هو الموضوع. وكانت القصة كما رآها وتداولها رواد مواقع التواصل، أن النظّارة اختراع ظهر بعد رحيل الإمام بخمسة قرون تقريباً، وأن الشافعي لم يضع نظّارة على عينيه في حياته كلها، وأن هذه مفارقة ما كان يجب أن تمر على صُناع العمل، وأن هذه مسألة بعيدة عن الواقعية في تناول حياة ثالث الأئمة الأربعة. ولم تتوقف السخرية عند هذا الحد، ولكنها تجاوزته إلى توقعات من الساخرين على المواقع بأنه ليس من المستبعد أن يظهر النبوي في الحلقات المقبلة، وفي يده جهاز موبايل آيفون آخر موديل، ما دام قد ظهر وهو لا يجد حرجاً في وجود النظّارة على عينيه.
وتحولت حكاية النظّارة من مجرد ملاحظة عابرة إلى موضوع أساسي بين الذين تابعوا المسلسل والذين لم يتابعوه، وتداول الكثيرون منهم صورة بطل العمل بالنظّارة على وجهه، وتناقلوها بينهم، وصار هذا الأمر الشكلي كأنه هو القضية، ولم تعد القضية هي حياة الشافعي في مسلسله، ولا الفقه الذي عاش يدعو إليه، ولا أفكاره التي قضى أيامه ينشرها بين جماهير الناس، ولا محطات تحوله من فقه إلى فقه، ولا جهاده في سبيل أن يشرح ما استغلق على المسلمين من المعاني. ولم أضبط أحداً متلبساً بمناقشة فكرة جاءت في العمل، وإنما طغت النظّارة على ما عداها، وجرى اختزال فقيه مثل الشافعي في نظّارة يضعها بطل العمل على عينيه. وتذكرتُ ما جرى مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما ظهر يتحدث في برنامج تلفزيوني، وفي يده ساعة بدت تتلألأ تحت الكاميرات. ورغم أنه تنبه وخلعها في بدء الحديث، فإن هذا لم يمنع أن تتحول ساعة يده إلى موضوع، وأن تحتل المشهد كله في حديثه، وأن تصبح هي البطل لا كلامه، ولا المظاهرات في بلده، ولا ما كان يقوله عن مشروع قانون التقاعد الذي أثار المتظاهرين ودفع بهم إلى الشارع.
شيء من هذا لم يشغل الذين تابعوا حديثه، وتركزت الأضواء كلها على الساعة وعلى تخمين ثمنها، ولم يجد قصر الإليزيه مفراً من إصدار بيان يقول فيه إنها ليست في الحقيقة كما أشاع الذين تداولوا صورتها، وأن ثمنها يقول إنها ساعة عادية ولا مبرر لهذا الصخب حولها. وهكذا غلب الشكل على الموضوع، وتوارى ماكرون وحديثه ومشروع قانونه الذي أقام الدنيا ولم يُقعدها، بينما كانت الصدارة في المشهد للساعة وحقيقة ثمنها الذي حيّر المتابعين. وبالتوازي مع الرئيس الفرنسي، كان الرئيس الأميركي جو بايدن يزور كندا، وكان جاستن ترودو، رئيس الوزراء الكندي، يستضيفه في بيته، وكانت أسرة ترودو في استقبال بايدن وزوجته، وكان الابن الأكبر لرئيس الوزراء ضمن المستقبلين. وفي لحظة كان الابن هو الذي سرق الكاميرا، ليس فقط من سائر أفراد أسرته، ولا من أبيه رئيس الوزراء، ولكن من ساكن البيت الأبيض شخصياً، ولم يكن السبب أن الولد يتمتع بقدرات خارقة هي التي جعلته يستحوذ على الأضواء في أنباء الزيارة كلها، ولكن لسبب في غاية الغرابة، وكان السبب أنه ظهر في استقبال الرئيس الأميركي بقدمين حافيتين. وترك رواد مواقع التواصل بايدن وزوجته، وتركوا ترودو وزوجته وبقية أبنائه، وتساءلوا عن السبب الذي جعل الابن يظهر بالشراب في قدميه دون الحذاء.
ولا شك في أن ظهور رئيس فرنسا وفي يده ساعة تضوي تحت العدسات، أمر يلفت انتباه كل متابع لحديثه، ولكنه أمر لا بد أن يبقى في حدوده المعقولة التي إذا غادرها فإنه يأخذنا معه إلى ملعب آخر ينشغل فيه المتابعون بالشكل ولا يستوقفهم المضمون. وما يقال عن ماكرون يقال بالدرجة نفسها عن بايدن هناك على الشاطئ الآخر من الأطلنطي، ويقال قبلهما عن نظّارة الإمام. ثم يقال أكثر منه عن الوعي العام، وعمّا أصابه بين الذين يتغذون على ما تقدمه مواقع التواصل، فلا يتوقفون أمام القضية في أي موضوع مطروح على موائد هذه المواقع، ولكن تأخذهم القشور التي بطبيعتها لا تعبر عن حقيقة ما تحتها في شيء.
Bookmark this ArticleSave this PagePrint this Article