73 :عدد المقالاتالاحد25.7.2021
 
 

 

الصحافة العربية :

47 - لماذا لم تمنع التحديات الخارجية من تراكم الأزمات الداخلية في إثيوبيا(محمد أبوالفضل/العرب)ÃÖÝ ÇáãÞÇá Åáì ÃÑÔíÝí ÇáÔÎÕí

- (استثمار آبي أحمد في أزمات الخارج لم يحل دون انفجار الداخل - مكاسب سد النهضة لم تنقذ آبي في الداخل):
رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد سعى منذ البداية ليبدو شخصية قوية في البلاد، لأجل ذلك ركز على القضايا الخارجية والأمن القومي من أجل كسب ثقة الإثيوبيين وجرهم وراء سياساته، ووجد في أزمة سد النهضة والخلاف مع مصر والسودان فرصة تدعم استراتيجيته. لكن ذلك لم يمنع من انفجار خلافات الداخل بوجهه بدءا من قضية تيغراي التي هزت من صورته في الداخل والخارج، وباتت تمثل مصدر تحدّ له بعد عودة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي للقتال بضراوة وتمكنها من إحكام السيطرة على العاصمة ميكيلي. استثمرت حكومات إثيوبية متعاقبة في التحديات الخارجية التي تواجه الدولة أملا في تخفيف حدة المشكلات الداخلية، وبلغ توظيف هذا العنصر من قبل رئيس الحكومة آبي أحمد حدا مرتفعا في أزمتي سد النهضة والحدود مع السودان، لأن الأزمات التي يواجهها على مستويات مختلفة خطرة والطروحات التي يريد تنفيذها لا تحظى بتوافق غالبية الشعوب التي تقطن البلاد، حيث يملك حكام الأقاليم سيطرة كبيرة على المناطق التي يديرونها.
أدرك آبي أحمد منذ البداية طبيعة الموزاييك السياسي والاجتماعي والعسكري الذي تتشكل منه بلاده، ووجد أن تصورات حكومته المركزية لن تتواءم مع عدد من الأقاليم التي تتمتع بحكم ذاتي فلجأ إلى إخماد بعض النعرات المكتومة من خلال زيادة مساحة الخلافات واللعب على التناقضات مع بعض الجهات كي يقنع الشعوب المختلفة التي تتشكل منها الدولة بأنها في خطر داهم، عملا بالنصيحة السياسية المتداولة منذ فترة طويلة والتي تقول “إذا أردت أن توحد شعبا فاخلق له عدوا خارجيا”. ويتم تداول هذه الحكمة واستخدامها بصيغ مختلفة في الأدبيات العالمية ونظريات العلوم السياسية، لكنها في المحصلة تعبر عن هروب من مواجهة الأزمات الحقيقية. ربما لم يتم اصطناع عدو في الحالة الإثيوبية، فالأعداء جاهزون والخصوم حاضرون، والأزمات على صفيح ساخن وبحاجة إلى من يفخ فيها، وما جرى هو انتقاء بعضها والتركيز عليه، إذ تجاهلت أديس أبابا ميراث العداء التاريخي المحتدم مع الجارة إريتريا وتم عقد اتفاقية سلام مع قيادتها لأن الصدام معها سيكون مكلفا.
حلقتان في الإقليم: اختارت إثيوبيا أهم حلقتين في منظومة الخلافات الإقليمية الممتدة التي لها علاقة مباشرة بالعزة والكرامة والوطنية، وهما سد النهضة مع كل من مصر والسودان، والحدود مع السودان، وبدأت عملية تصعيد ممنهج في الأولى، ثم تسلل إلى الثانية بحكم وجود الخرطوم في النموذجين، وذلك لضمان التفاف الشعوب حول الحكومة باعتبار أن الهدف المعلن لسد النهضة المقام في منطقة بني شنقول تشييد مشروع تنموي سوف يفيد جميع أنحاء البلاد. كما أن الصدام الحدودي مع السودان بذريعة الدفاع عن منطقة الفشقة التي أحكمت جماعة الأمهرة السيطرة عليها عبر عصابات “الشفتة” لنحو ثلاثة عقود واقتطعتها بنعومة من الخرطوم لا يخلو من حسابات سياسية داخلية، حيث تمثل الأمهرة الذراع الرئيسية الداعمة للحكومة المركزية، بالتالي فالوقوف بجوارها وعدم التهاون في استردادها يضمنان استمرار هذه العلاقة وما تنطوي عليه من أهمية. وأسهمت الطريقة العسكرية التي استرد بها السودان نحو 90 في المئة من منطقة الفشقة في زيادة التصعيد وشحذ الهمم الوطنية كأن الأرض احتلت من السودان وليس العكس، وهو ما صب في الغرض ذاته الذي أراد آبي أحمد الترويج له والخاص بالحفاظ على الحدود الراهنة للدولة الإثيوبية من دون اعتداد كبير بالمواثيق الدولية السابقة خلال عهد الاستعمار كدليل على القوة والقدرة على فرض الأمر الواقع.
حاولت إثيوبيا الإيحاء بعدم الاستسلام لحجج السودان في السيطرة على الفشقة، وترفض القبول بذلك حتى الآن، لكنها وجدت أن الدخول في مواجهة عسكرية سيكون مكلفا أكثر من اللازم، واعتقدت أن التلويح بها يكفي لردع الخرطوم وجرها للوقوع في خطأ التوغل داخل الأراضي الإثيوبية، وتكررت محاولات التحرش عسكريا مع مصر باستفزازها المستمر بعد أن ألمحت إلى عدم استبعاد الخشونة لحل أزمة سد النهضة.نجحت الخطة المرسومة للتعامل مع الأزمات الخارجية في تطويق الكثير من المشكلات الداخلية في البداية وظلت شراراتها محصورة في نطاق بعض الأقاليم، وتمكنت أديس أبابا من فرض إرادتها السياسية في مشروع سد النهضة عبر تصميمها على إتمام الملء الأول ثم الثاني منفردة، بقطع النظر عن الكمية التي تم تخزينها في المرتين، فالفكرة انحصرت في تعويم قدرة الحكومة المركزية على فرض منطقها. أسقط خطاب آبي أحمد الموجه للخارج من تقديراته، بعد نحو عام من تسلمه السلطة، تعزيز السلام وتصفير الأزمات الإقليمية ولجأ إلى تصدير خطاب الحرب وعينه على الداخل للحصول على دعم الأقاليم المختلفة أو للتلويح بأن خيار التعامل العسكري لم يحذف تماما من قاموس الحكومة التي رفعت شعار التوافق الوطني.
رؤى سياسية متشابكة: أخفقت الحكومة الإثيوبية في جني ثمار خطتها في التصعيد مع الخارج للحصول على تهدئة في الداخل وأخذت معاركها السياسية تمتد وتتشعب على الجانبين بصورة تدريجية، وهو ما فهمه الخصوم والمنافسون لآبي أحمد على الجبهتين وحاولوا تشتيت وإنهاك جهوده وتفويت الفرصة على مخطط العدو الخارجي الأَولى بالاشتباك معه. وفي الوقت الذي رفضت مصر والسودان جرهما إلى معركة عسكرية تكسب منها إثيوبيا سياسيا وتحويل الخطر المحتمل إلى واقع، تصاعدت الأزمة مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، ووجدتها الحكومة المركزية الحلقة الأصعب في مشكلات الداخل، فاختارت معها الحل القسري وحققت انتصارات مكنتها من السيطرة على عاصمة الإقليم ميكيلي في نوفمبر الماضي. جاءت هذه الحرب السريعة برياح عكس ما أراده آبي أحمد الذي اعتقد أن كسر شوكة تيغراي سيردع الأورومو وكافة الشعوب المنزعجة من حكومته، غير أن هذه الحرب فتحت عليه نيرانا خارجية تمثلت في تنديد بانتهاكات حقوق الإنسان ارتكبت في الإقليم، وفتحت عليه انتقادات واسعة لتحالفه مع إريتريا التي شاركت في احتلال تيغراي وانتقل في نظر المجتمع الدولي من رجل السلام إلى مارشال الحرب.
عجلت هذه الخطوة بمزيد من المعارضة الداخلية، واستشعرت شعوب أخرى بأن مصير تيغراي ينتظرها، فبدأت احتجاجات الأورومو تتكاثر وعنفها يتسع، وأخذ تململ إقليم بني شنقول المقام عليه سد النهضة يظهر بلا مواربة، وهو ما دق جرس إنذار شعوب أخرى خشيت من مصير تيغراي ومن التداعيات السلبية التي يمكن أن تظهر على جسم حزب “الازدهار” عقب اكتساحه الانتخابات الأخيرة التي شككت في نزاهتها وصدقيتها مباشرة تقارير دولية عديدة. جاءت نقطة التحول الرئيسية التي قلبت الطاولة على الحكومة من عودة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إلى القتال بضراوة وتمكنها من إحكام سيطرتها على العاصمة ميكيلي وأسر الآلاف من الجنود التابعين للحكومة المركزية وطرد جنود إريتريا من الإقليم والاستحواذ على معداتهم العسكرية والتطلع إلى تأمين حدوده مع الأقاليم المجاورة. لا يعرف الكثير من المتابعين بالضبط كيف جرى هذا التحول الدرامي في مسار الحرب، لكن النتائج تكشف إلى أي درجة بدت القوات المركزية هشة والتحالف الذي يقيمه آبي أحمد مع الأمهرة متفسخا، ولم يعد هدف هذا الإقليم السيطرة على مفاتيح القرار في أديس أبابا بقدر الدفاع عن مقدراته.
ينصب هدف الأمهرة حاليا حول الدفاع عن إقليمهم من تغول جبهة تيغراي بعد أن قررت الانتقام من الحكومة والمتحالفين معها، لكن التحركات التي تقوم بها حاليا تنصب على مد بصرها للهيمنة على المفاصل الاستراتيجية التي تكبد الحكومة خسائر باهظة، فقد تحركت قوات جبهة تحرير تيغراي نحو الطريق الدولي الواصل بين جيبوتي وأديس أبابا من خلال التواجد في إقليم العفر الذي تؤدي السيطرة عليه إلى تصلب الدماء في شرايين الحكومة الإثيوبية وخنقها ببطء. قلبت هذه الخطة ترتيبات آبي أحمد لأنها شجعت قوات الأورومو على الزحف نحو أديس أبابا باعتبارها تقع ضمن نطاق إقليميهم واقتربت منها بنحو 40 كيلومترا، وأدت إلى مزيد من انزعاج العفر بعد أن انهارت قوات الحكومة المنوط بها الدفاع عن إقليمهم وأسر قائد الجبهة الشرقية، ما دعا حاكم العفر (آوول أربا) أخيرا إلى الدعوة لاستنفار المواطنين للدفاع عن الإقليم. ويبيّن إخفاق خطة المتاجرة بالعدو الخارجي لأجل التلاحم الداخلي التي بدت واضحة في توجهات آبي أحمد حجم الخطأ السياسي الجسيم، وأن الاعتماد عليها فقط لن يكون عاصما من الانهيار طالما أن البيئة المحلية رخوة وتنخر فيها عوامل التفكك ولا توجد تصورات متينة للتوافق الوطني. وتقدم هذه النتيجة دروسا لكثير من حكام المنطقة الذين لا يزالون أسرى اجتهادات تقليدية مشكوك في جدواها ويصرون على التمسك بحجج غير دقيقة وتضخيمها للتلكؤ في القيام بإصلاحات داخلية تمثل سلاحا قويا لمواجهة التحديات الخارجية المصيرية.
Bookmark this ArticleSave this PagePrint this Article