71 :عدد المقالاتالاحد18.10.2020
 
 

 

الصحافة العربية :

18 - السعودية وفلسطين: من الجهاد إلى الشيطنة(د. وليد القططي/راي اليوم)ÃÖÝ ÇáãÞÇá Åáì ÃÑÔíÝí ÇáÔÎÕí


وثّق الباحث السعودي محمد الأسمري في كتابه (الجيش السعودي في حرب فلسطين)، نقلاً عن (دار الوثائق المصرية)، رسالة من قائد الجيش المصري في فلسطين اللواء أحمد المواوي لقيادته في القاهرة يُشيد ببسالة الجيش السعودي المُشارك في حرب فلسطين إلى جانب الجيش المصري، جاء فيها:” أرى أنه من باب المجاملة للدولة الوحيدة التي اشتركت معنا اشتراكاً بجيشها أن يُكافأ رجالها الذين اشتركوا وامتازوا في الميدان أسوة برجالنا… إنَّ الروح المعنوية السائدة بين هذه القوات روح عالية؛ فكلهم متشوقون للقتال ومؤمنون بالقضية العربية يدفعهم في ذلك شعور ديني”. هذا الشعور الديني الذي ذكره المواوي في رسالته هو فريضة الجهاد في سبيل الله للدفاع عن فلسطين والقدس، الأرض المُباركة والمقدسة، أرض الإسراء والمعراج، التي فيها المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، كما وثق الأسمري نقلاً عن (مركز المعلومات الفلسطيني) أسماء (155) شهيداً سعودياً من أصل (3200) مُقاتلاً نظامياً ومتطوعاً شاركوا في الحرب. هذا الدافع للجهاد من أجل تحرير فلسطين وحباً لها يحاول النظام الحاكم السعودي عبثاً بعد سبعة عقود من حرب فلسطين، أن يزرع مكانه شيطنة فلسطين: القضية والشعب والمقاومة، وما بين الجهاد لتحرير فلسطين وشيطنة فلسطين مساحة زمنية وتحوّلات جوهرية.
استمرت المملكة العربية السعودية بقيادة آل سعود بدعم القضية الفلسطينية ودول الطوق ضد الكيان الصهيوني- على الأقل في العلن- انسجاماً مع إرادة الشعب العربي المسلم في الجزيرة العربية المُحب لفلسطين والقدس والأقصى، فكما وقفت المملكة مع فلسطين في حرب النكبة عام 1948م في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز بن سعود، وقفت مع مصر أثناء العدوان الثلاثي عام 1956م في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز، فقدمت الدعم المالي، واستضافت الطائرات المصرية المحتمية من القصف في مطاراتها لحمايتها. وبعد النكسة عام 1967م قدّمت المملكة في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز لمصر أموالاً ضخمة لتعويض خسائر الحرب. أما في حرب اكتوبر عام 1973م فأمر الملك فيصل باستخدام سلاح النفط للضغط على الدول الغربية الداعمة للكيان الصهيوني، وأرسل قوات عسكرية لمساندة الجيش السوري على جبهة الجولان. وعندما خرج الرئيس المصري أنور السادات عن الإجماع العربي ضد الكيان، وعقد اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 م معه، وأخرج مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، كانت المملكة بقيادة الملك خالد بن عبد العزيز في طليعة الدول العربية التي قاطعت مصر للضغط على نظامها الحاكم للعودة إلى الإجماع العربي، وتصويب سياساتها اتجاه فلسطين.
لم يمر زمن طويل على خروج مصر من الصراع والإجماع العربي، وبتعبير الشاعر العراقي أحمد مطر فرار الثور من الحظيرة، حتى بدأ العرب يشقون طريقهم خلف الثور الهارب من الحظيرة، فلم يرجع الثور، ولكن ذهبت وراءه الحظيرة، وبما أنَّ (أول الرقص حنجلة)، فجاءت المبادرة السعودية للسلام عام 1981م المعروفة بمبادرة الأمير فهد لتكون أول حنجلة العرب، التي أعطت صاحب البيت ثلثه، ومغتصبه الثلثين. وكان حنجلة صاحب البيت سلسلة من التنازلات انتهت باتفاقية اوسلو عام 1993م، التي جعلت صاحب البيت يرضى بالعيش تحت سلطة مغتصب البيت، وطبّق العرب المثل (إن كان صاحب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت الرقص)، فرقص العرب على إيقاع موسيقى سلام الشجعان التي كان يعزفها أبو عمار من سجن المقاطعة برام الله، فحوّلوا المبادرة السعودية للسلام إلى المبادرة العربية للسلام في قمة بيروت عام 2002م، التي سجلوا فيها براءة اختراع نظرية (الأرض مقابل السلام)، ومع عوامل التعرية القومية بفعل رياح التغيير القادمة من الشمال الغربي تآكلت الأرض ولم يبقَ إلاّ السلام، مُضافاً إليه رمال التطبيع التي ألقتها رياح التغيير الشمالية الغربية، فتكوّنت نظرية جديدة هي (الحماية مقابل السلام والتطبيع)، وجاري العمل على تطوير النظرية لتنسجم مع إرادة سيد البيت الأبيض الجديد وصفقة قرنه، ولتتوّج إنجازات بطلي الحرب على اليمن والسلام على (إسرائيل) – ابن سلمان وابن زايد- فيتطور التطبيع إلى تحالف، فكانت سياسة شيطنة فلسطين: القضية والشعب والمقاومة ممراً إجبارياً للاعتراف بالكيان، والسلام والتطبيع معه، وصولاً إلى التحالف.
شيطنة فلسطين – القضية والشعب والمقاومة – كسياسة منهجية موّجهة من السلطة السعودية العُليا اتخاذها ممراً إجبارياً للسلام والتطبيع مع العدو، وربما التحالف معه، يهدف إزالة حضور فلسطين في عقول وقلوب السعوديين، ومحوها من ذاكرتهم ووجدانهم، ولإزالة الحاجز النفسي المانع لارتكاب جريمة الصلح مع الكيان وإدارة الظهر لفلسطين، ولإيجاد مبرر أخلاقي يسمح بالتخلّص من عبء القضية الفلسطينية الثقيل المُعيق لتنفيذ إرادة سيد البيت الأبيض، ولإماتة الضمير المُسبب للشعور بالذنب بعد الوقوف مع الجلاد الإسرائيلي ضد الضحية الفلسطيني. ولذلك كانت شيطنة فلسطين عبر الإعلام والدراما استحقاقاً مفروضاً يتم بموجبه استبدال الصورة النمطية الايجابية لفلسطين – القضية والشعب ومقاومة – الجامعة بين صورتي الضحية والبطل، وبين مأساة الاحتلال وبسالة المقاومة، وبين معاناة اللجوء وعنفوان الثورة، لتكون الصورة النمطية سلبية تقوّض عدالة القضية، وتشيطن صورة الشعب، وتُجرّم نضال المقاومة، فالقضية مجرد تجارة بأيدي القادة، والشعب باع أرضه وناكر للجميل، والمقاومة تعمل لأجندة خارجية لحساب إيران وتركيا والإخوان المسلمين… وهذا من شأنه خلق حالة من العدائية والكراهية لكل ما هو فلسطيني، فلا عجب بعد ذلك إن تم الترويج لشعار (فلسطين ليست قضيتي) في أوساط العرب الخليجيين وخاصة السعوديين، ولا عجب بعد شيطنة الفلسطيني من الذهاب نحو أنسنة الجلاد الإسرائيلي.
أنسنة الإسرائيلي في وسائل الاعلام والدراما السعودية والخليجية هي الوجه الآخر لشيطنة الفلسطيني، ومفهوم الأنسنة كمقابل للشيطنة يعني إضفاء الصفات الأخلاقية الإنسانية على الإسرائيلي بمعزل عن كونه مُحتلاً ومغتصباً للأرض، ومُهجّراً ومُشرّداً للشعب، وبتجاهل لحقيقة دولة (إسرائيل) ككيان قائم على أرض الشعب الفلسطيني، وكيان عسكري استيطاني إحلالي عنصري إرهابي، قام بالعنف واستمرار وجوده مرتبط بإدامة العنف. إضفاء الصفات الإنسانية على اليهودي الصهيوني الإسرائيلي وكيانه هدفه تغيير الصورة النمطية الشريرة للإسرائيلي المرتبطة بالعدوان، إلى صورة نمطية إيجابية جديدة، ترسم صوراً مختلفة للإسرائيلي الفرد كإنسان عادي، وإنسان طيب، وإنسان متفوّق، وللإسرائيلي الشعب كأمة مظلومة مكافحة من أجل البقاء تستحق الحياة في وطنها (إسرائيل). ولاستكمال أنسنة الإسرائيلي كعدو سابق، لا بد من إعادة تعريف العدو، فعندما تصبح فلسطين ليست قضية السعوديين، تصبح (إسرائيل) ليست عدواً لهم، بل العدو هو الشعب الفلسطيني الناكر للجميل “اللي ما يقدر وقفتك معاه ويسبك ليل نهار”، وبذلك بعد شيطنة الفلسطيني وأنسنة الإسرائيلي تصبح الطريق ممهدة للصعود إلى هاوية التطبيع والتحالف مع الكيان الصهيوني. انتقال النظام السعودي الحاكم بقيادة ثنائي استبداد آل سعود السياسي وتطرف آل الشيخ الديني من صورة الجهاد لتحرير فلسطين المُشرقة إلى صورة شيطنة فلسطين المُظلمة، كان نتاج مسيرة تحالف شريرة بين السلطتين السياسية والدينية، توّلى كبرها الأمير والشيخ، أنتجت فكراً تكفيرياً دموياً، وزّع (المجاهدين) على شتى بقاع الأرض التي يريدها الأمريكان، فسقط على هذه الطريق المليئة بالشبهات آلاف الشباب السعوديين، ذهبوا قرابين بشرية على مذبح تضليل وإرادة الأمريكان، ابتداءً من أفغانستان وانتهاءً بسوريا مروراً بالشيشان والصومال وغيرهما كثير، في حروب عبثية ومعارك وهمية، لا ناقة للأمة فيها ولا جمل، وبقى عشرات الشهداء السعوديين الذين ارتقوا دفاعاً عن الأقصى والقدس وفلسطين بقعة صغيرة ناصعة البياض في ثوب كبير حالك السواد، ولكن البقعة حتماً ستكبر وتتسع حتى تملأ الثوب كله بياضاً وتُبدد سواده الحالك وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا.
****************************
Bookmark this ArticleSave this PagePrint this Article