46 - كيف نقرأ بيان النخب الفلسطينية ضد الرئيس عباس(باسل أبوسعيد)(العرب)
- (أغلب الموقعين على البيان تناسوا أنهم كانوا كوادر رسمية أو على علاقة نفعية بهذا النظام الشمولي الذي وصفوه بالمستبد، ولولا فساده وشموليته لما استمروا في عملهم حتى تقاعدهم - انقلاب اليوم على عباس يذكرنا بالانقلاب على عرفات):
نشرت صحيفة الغارديان البريطانية قبل أيام رسالة مفتوحة وقعتها مجموعة من المثقفين والأكاديميين والكتاب والفنانين الفلسطينيين، أدانوا فيها حديث الرئيس الفلسطيني محمود عباس مؤخراً في المجلس الثوري لفتح ووصفوا تصريحاته بالمستهجنة أخلاقياً وسياسياً حول المحرقة والإبادة الجماعية لليهود، واعتبروها تحريفا من الرئيس عباس للتاريخ الإنساني ورواية المحرقة اليهودية بالذات. تساوق نشر تلك الرسالة مع حملة أوروبية غربية رسمية استهجنت تصريحات الرئيس عباس وطالبته بالاعتذار فوراً، ووصفت موقفه بالعنصري والمعادي للسامية حتى وصل الأمر إلى عمدة مدينة باريس بإصدار قرار سحب وسام الشرف الأرفع للمدينة الممنوح مسبقاً للرئيس الفلسطيني.
مما لا شك فيه أن معظم السياسات والمواقف الرسمية الفلسطينية -بشكل عام- تخضع للاجتهادات الشخصية أكثر منها للدراسة العلمية والتدقيق المهني السليم، وهو ما قد يدفع بالكثير من القياديين إلى التخبط والارتباك عند الإدلاء بتصريحاتهم التي غالباً ما تخرج مضمون الحديث من سياقه الصحيح، وهذا ما حدث في السابق مع الكثيرين، ومؤخرا مع الرئيس عباس. وبالرغم من ضعف أداء النظام السياسي الفلسطيني ورداءته، الشيء الذي يشجع على بروز حالات كثيرة من المعارضة بأشكال متعددة، يعتبر خروج تلك “النخب الفلسطينية” بالتحديد لتكتب تلك الرسالة، وتسجل موقفها المعارض على منصات الإعلام الدولي، أمرا يحتاج إلى قراءة استثنائية، فكيف نقرأه؟
أولاً: جاءت الرسالة على شكل بيان نخبوي كُتِبَ ونُشِرَ باللغة الإنجليزية وموجه إلى المجتمع الغربي فقط، ويبدو أن كاتبيه غير معنيين بتوجيهه إلى الرأي العام الفلسطيني أو أنهم فشلوا على مدار سنوات في ترسيخ وجودهم وطنياً وشعبياً، وهذه أزمة هامة تعيشها النخب الفلسطينية منذ عقود. ثانياً: أغلب الموقعين على البيان هم كوادر سابقة في منظمة التحرير الفلسطينية وأبناء بعض القيادات المعروفة بالإضافة إلى بعض الكتاب والأكاديميين الذين كانوا ومازالوا حتى فترة وجيزة مرتبطين نفعيا بمؤسسات السلطة الفلسطينية. لكن انقلابهم اليوم على الرئيس عباس يذكرنا بانقلاب البعض الآخر على الزعيم ياسر عرفات من قبل، و هو ما يظهر حجم الانتهازية وثقافة الزبائنية التي عاشتها وتعيشها الكوادر التنفيذية والنخب التي تدور في فلك النظام السياسي الفلسطيني. ثالثاً: حتى وإن كانت تصريحات الرئيس عباس ليست في مكانها ولاقت هذا الكم الهائل من الانتقادات الرسمية الغربية! فإصدار بيان باسم تلك النخب الفلسطينية ونشْره عبر صحيفة عالمية مثل الغارديان بدَوَا وكأنهما محاولة انتهازية رخيصة لكشف ظهر النظام السياسي الفلسطيني، وأظهرا بوضوح أن أغلب نخبه الأكاديمية والمثقفة المنتفعة قد تخلت عنه لصالح ارتباطها ومصالحها مع الغرب وأجهزته (السياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية… إلخ)، وأن البيان جاء ليعلن بكل وقاحة عن تفضيل تلك النخب لعلاقتها بالغرب على حساب علاقتها بالنظام السياسي والقيادة الفلسطينية.
رابعاً: لم يكتف البيان بمهاجمة تصريحات الرئيس عباس حول المحرقة النازية، بل أشار أيضاً إلى فساد القيادة والنظام السياسي الفلسطيني، وقد تناسى أغلب الموقعين على البيان أنهم كانوا كوادر رسمية أو على علاقة نفعية مباشرة وغير مباشرة بهذا النظام الشمولي الذي وصفوه بالمستبد، ولولا فساده وشموليته لما استمروا في عملهم حتى تقاعدهم ولما استفادوا من الامتيازات الأخرى. وأخيرا، فضح البيان حجم الرذيلة الوطنية التي تمارس في بيئة العمل السياسي الفلسطيني وعدم احترام الكوادر التنفيذية والنخب لقواعد الخصومة. وتنصلها السريع من القيادة ومهاجمة تصريحاتها (حتى وإن كانت خطأ) أمام المجتمع الدولي -غير العادل- ما هما إلا محاولة وضيعة لمحاباة حكومات الغرب والحفاظ على مصالحها معه فقط. كذلك يعكس البيان حالة الأزمة الأخلاقية التي تعيشها تلك النخب بشكل عام، في ظل نظام سياسي ساهمت أغلبية النخب ذاتها في إفساده، وهو الشيء الذي يصعب تصور بروز حالة معارضة ذات مصداقية لإصلاحه في المنظور القريب.
*******************************