27 - السوريون في حاجة إلى التطبيع مع أنفسهم أولا(علي قاسم)(العرب)
- العودة إلى الوطن حلم يراود الكثير من السوريين الذين اضطروا للنزوح واللجوء بسبب الاقتتال والضغوط الاقتصادية، ولكن لتحقيق هذا الحلم تحتاج دمشق إلى اتخاذ خطوات جادة لبناء الثقة مع هؤلاء المهجّرين - وسط كل التحديات برزت قصص نجاح ملهمة:
خبر إعادة “مؤسسة الخطوط الجوية السورية” تشغيل رحلاتها بين دمشق وجدة، قد يكون خبرا عاديا لا يلفت الاهتمام، ولكن بالنسبة إلى اللاجئين السوريين يمثل خطوة إيجابية نحو تطبيع العلاقات بين سوريا والسعودية، وهي خطوة قد تفتح الباب أمام دمشق لتطبيع العلاقات مع دول عربية أخرى، مما يعزز من فرص الاستقرار في سوريا وفي المنطقة. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة وحدها لن تكون كافية لتحقيق تطبيع شامل بين السوريين أنفسهم.
عندما غادرت سوريا في بدايات الثمانينات، كان عدد سكانها 8.7 مليون نسمة. كانت سوريا آنذاك بلدًا مستقرًا نسبيًا، يعيش سكانها حياة طبيعية رغم التحديات الاقتصادية والسياسية. لكن هذا الرقم، الذي كان يعكس حجم السكان في تلك الفترة، أصبح اليوم رمزًا لمأساة إنسانية. فعدد السوريين الذين اضطروا للنزوح واللجوء إلى دول الجوار والدول الأوروبية بحثًا عن الأمان بعد اندلاع أحداث العنف عام 2011، يبلغ وفق الإحصاءات 12.3 مليون نازح ولاجئ، وهو رقم يفوق عدد سكان سوريا في الثمانينات بأكثر من الثلث.
اندلاع الاقتتال في سوريا عام 2011 كان نقطة تحول مأساوية في تاريخ البلاد. بدأت الاحتجاجات المطالبة بالإصلاحات السياسية تتحول تدريجيًا إلى صراع مسلح، مما أدى إلى تدمير البنية التحتية وتشريد الملايين. منازل كانت تؤوي العائلات أصبحت ركامًا، ومدارس كانت تملأها أصوات الأطفال أصبحت مهجورة، والمستشفيات التي كانت تعالج المرضى أصبحت أهدافًا للقصف.
مع تصاعد العنف، لم يجد السوريون بُدًّا من الهروب بحثًا عن الأمان. بدأت رحلة النزوح داخل البلاد أولاً، حيث انتقل الكثيرون من مناطق النزاع إلى مناطق أكثر أمانًا. لكن مع استمرار الصراع وتفاقم الأوضاع، اضطر الملايين إلى مغادرة البلاد بالكامل. توجه البعض إلى دول الجوار مثل تركيا ولبنان والأردن، بينما اختار آخرون الرحيل إلى أوروبا، بحثًا عن حياة جديدة بعيدًا عن الاقتتال وهربا من الضغوطات الاقتصادية.
رغم أن اللجوء إلى دول الجوار وأوروبا كان بمثابة طوق نجاة للكثيرين، إلا أن التحديات لم تنتهِ عند هذا الحد. واجه اللاجئون السوريون صعوبات كبيرة في التكيف مع الحياة الجديدة، بدءًا من تعلم اللغة الجديدة، مرورًا بالبحث عن عمل، وصولاً إلى التكيف مع الثقافات المختلفة. ورغم الدعم الذي قدمته بعض الدول والمنظمات الإنسانية، إلا أن الكثير من اللاجئين ما زالوا يعيشون في ظروف صعبة، يعانون الفقر والبطالة والتمييز. وسط كل هذه التحديات، برزت قصص نجاح ملهمة للاجئين سوريين تمكنوا من التغلب على الصعوبات وبناء حياة جديدة. في ألمانيا، نجح العديد من اللاجئين في استكمال تعليمهم والحصول على وظائف مرموقة. في تركيا، أسس بعض اللاجئين مشاريع صغيرة ناجحة ساهمت في تحسين أوضاعهم الاقتصادية. وفي مصر، تمكن آخرون من الاندماج في المجتمع والمساهمة في تنميته.
ورغم النجاحات التي حققها بعض اللاجئين، إلا أن الحلم الأكبر يظل العودة إلى الوطن. العودة إلى سوريا التي يعرفونها، سوريا التي كانت موطنًا للأمان والسلام. لكن هذا الحلم يظل معلقًا في ظل استمرار الصراع وعدم وجود حل سياسي يضمن عودة آمنة وكريمة لهم. وغالبا ما يتابع اللاجئون أيّ خبر ولو كان صغيرا يحيي أملهم بفتح أبواب العودة، خاصة مع التطورات الأخيرة التي تضع ضغوطا على دول المنطقة، التي تحوّل اللاجئون فيها إلى قنبلة قد تزعزع الاستقرار حتى في دول أوروبا، للبحث عن حلول دائمة.
التحدي الأكبر الذي يواجه دمشق ليس فقط تطبيع العلاقات مع الدول العربية، بل في كسب ثقة السوريين المهجّرين والمهاجرين داخل بلادهم وخارجها. وهم يمثلون جزءًا كبيرًا من الشعب السوري الذي عانى من ويلات الحرب والنزوح. هؤلاء السوريون يحتاجون إلى ضمانات حقيقية للعودة إلى منازلهم وأشغالهم دون أيّ مساءلة أو مضايقات. العودة إلى الوطن هي حلم يراود الكثير من السوريين الذين اضطروا للنزوح واللجوء بسبب الحرب. ولكن لتحقيق هذا الحلم، تحتاج دمشق إلى اتخاذ خطوات جادة لبناء الثقة مع هؤلاء المهجّرين. يجب أن تكون هناك ضمانات حقيقية لسلامتهم وحقوقهم، والأهم يجب أن يشعروا أنهم مرحب بهم في وطنهم دون خوف من الانتقام أو الاعتقال.
لاجتياز هذه المرحلة الحساسة، ستحتاج دمشق إلى كامل إرثها الدبلوماسي. بدءا بما قاله معاوية يوما: “لا أضع سيفي حيث يكفيني صوتي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كنت إذا مدّوها خليتها وإذا خلّوها مددتها”. يجب أن تكون هناك جهود دبلوماسية مكثفة لإعادة بناء العلاقات مع الدول العربية، وفي الوقت نفسه، يجب أن تكون هناك جهود موازية لبناء الثقة مع الشعب السوري. هذه الجهود يجب أن تكون شاملة وتستهدف جميع جوانب الحياة في سوريا، من الأمن إلى الاقتصاد إلى التعليم والصحة.
بالطبع لا نتوقع أن يبادر اللاجئون السوريون إلى العودة مباشرة إلى بلدهم، وقد لا يعود قسم كبير منهم إليها، ولكنهم سيقومون بزيارتها سنويا، وقد يشجعهم الاستقرار الحاصل فيها على الاستثمار وإقامة مشاريع والمساهمة في النمو. إذا كان هناك مشككون في جدوى المصالحة بسبب ما لحق بسوريا والسوريين من مآس، نذكرهم بقدرة الشعوب على تجاوز آلام الحروب والعداوات والانكباب على بناء الاقتصاد وتحقيق النمو. تجارب اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية تقدم لنا دروسًا قيّمة حول كيفية تحويل الدمار إلى فرص للنمو والازدهار.
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت اليابان مدمرة بشكل شبه كامل. ومع ذلك، تمكنت من تحقيق نهضة اقتصادية مذهلة. التحالف مع الولايات المتحدة – عدو الأمس – كان له دور كبير في هذا النجاح. قدمت الولايات المتحدة الدعم الاقتصادي والتكنولوجي لليابان، مما ساهم في تعزيز التجارة الدولية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. ألمانيا، التي كانت مدمرة أيضًا بعد الحرب، تمكنت من تحقيق نهضة اقتصادية بفضل برنامج إعادة الإعمار الأوروبي (ERP)، المعروف بخطة مارشال. وفي الحالتين، اليابانية والألمانية، عدو الأمس هو من ساهم بإنقاذ اقتصاد البلد. مهما كانت فحوى الرسالة الدبلوماسية التي تسعى دمشق لإيصالها، فإن الأهم هو أن يتمكن السوريون من التطبيع مع أنفسهم. يجب أن يشعر السوريون بأنهم جزء من عملية إعادة البناء وأن لهم دورًا في مستقبل بلدهم.
إعادة تشغيل الرحلات بين دمشق وجدة هي خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها ليست كافية لتحقيق تطبيع شامل للعلاقات. المطلوب من دمشق كسب ثقة السوريين المهجّرين والمهاجرين وتشجيعهم على العودة إلى وطنهم. هذا يتطلب جهودًا دبلوماسية مكثفة وإرادة سياسية حقيقية. لتحقيق المصالحة وبناء مستقبل أفضل لجميع السوريين التطبيع مع النفس هو الأهم. “إن أولى الناس بالعفو (والحديث لمعاوية) أقدرهم على العقوبة. من عفا ساد، ومن حلُم عظُم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب”.